سد "الأزمة" بين صبر مصر ومراوغة إثيوبيا!
بقلم : عبدالمحسن سلامة
ربما تكون الحسنة الوحيدة لتغيب إثيوبيا عن الجولة الأخيرة للمفاوضات فى واشنطن هى أنها أسقطت "ورقة التوت” عن "المراوغة" الإثيوبية أمام العالم، التى كانت إثيوبيا تحاول أن تخفيها فى كل مرة بمحاولة تطويل أمد المفاوضات، والتصريح بمعسول الكلام فى وقت كانت فيه تبطن غير ما تظهر، وتعلن فى جلسات المفاوضات، وأمام وسائل الإعلام، شيئا وتفعل عكسه تماما على أرض الواقع.
فى جلسة المفاوضات قبل الماضية فى واشنطن أيضا، تذرعت إثيوبيا بضرورة أن تأخذ بعض الوقت للتشاور الداخلى، وكأن 9 سنوات ليست كافية للمشاورات الداخلية. وبناء على الرغبة الإثيوبية وافقت الولايات المتحدة، راعية المفاوضات مع البنك الدولى، وبالتنسيق مع مصر والسودان، على تأجيل التوقيع النهائى لجلسة التفاوض الأخيرة. وكان جدول أعمال هذه الجلسة واضحا ومعلنا، وهو توقيع بالأحرف الأولى على ما تم الاتفاق عليه، خاصة ما يتعلق بالصياغات النهائية التى وافقت عليها الدول الثلاث، وشارك فيها كل من الولايات المتحدة والبنك الدولى، والمتعلقة ببعض التفاصيل الفنية والقانونية.
غياب إثيوبيا عن جولة المفاوضات الأخيرة لم يكن له ما يبرره على الإطلاق، إذا كانت إثيوبيا فعلا لا تريد الإضرار بدولتى المصب (مصر والسودان)، وتريد ـ كما تعلن دائما ـ أن يتحول سد النهضة إلى فرصة للمزيد من التعاون والتكامل بين الدول الثلاث، وأن يحقق التنمية لإثيوبيا دون أن يلحق ضررا بمصر أو السودان، إلا أن المفاجأة كانت فى تغيب الوفد الإثيوبى فى وقت كان من المفترض أن يتم توقيع الاتفاق النهائى خلال الأسابيع الأولى من مارس الحالى، بحضور زعماء الدول الثلاث.
تغيب الوفد الإثيوبى هو تأكيد لنهج "المراوغة" الذى بدأته إثيوبيا منذ ٩ سنوات، وتحديدا فى 2011، حينما أعلنت بناء سد النهضة عقب اندلاع ثورة 25 يناير، وانخراط الدولة بأجهزتها فى الأزمة الداخلية، لتظهر الخطيئة الكبرى لتلك الثورة فى استغلال إثيوبيا تلك الأحداث، والإسراع فى عملية بناء السد، والترويج أنه لن يضر مصالح دولتى المصب (مصر والسودان)، وللأسف وقع بعض من كانوا يتصدرون المشهد فى تلك الآونة من قيادات ثورة 25 يناير فى فخ المراوغة الإثيوبية، وذهبوا إلى إثيوبيا تحت مسمى “وفود الدبلوماسية الشعبية”، ليرددوا مقولات إثيوبيا الخاطئة، وأنهم استطاعوا حل الأزمة، رغم أنهم عادوا بـ"خفى حنين"، ورددوا أكاذيب وأوهام ثبت زيفها بمرور الأيام.
أعتقد أن الحالة هذه المرة مختلفة، لأن مصر ومنذ 5 سنوات، وبالتحديد فى 23 مارس 2015، نجحت فى أن تضع حدا لحالة العبث التى كانت سائدة فى المفاوضات قبل هذا التاريخ، بعد أن تم توقيع اتفاق "إعلان المبادئ" فى الخرطوم، بحضور زعماء الدول الثلاث، وتوقيعهم على تلك الاتفاقية الملزمة للأطراف الثلاثة.
تضمن "إعلان المبادئ" نصوصا واضحة ومحددة ملزمة للدول الثلاث (إثيوبيا ومصر والسودان)، وغياب إثيوبيا عن جولة المفاوضات الأخيرة فى واشنطن كشف عن مسلسل ارتكابها العديد من المخالفات المتعلقة باتفاق "إعلان المبادئ” منذ توقيعها حتى الآن، لعل أبرزها ما يلى:
أولا: مخالفة المبدأ الثالث من اتفاق "إعلان المبادئ"، الذى ينص على مبدأ عدم التسبب فى ضرر ذى شأن، وتأكيد رفض حدوث أى ضرر ذى شأن لأى دولة، وحق هذه الدولة المتضررة فى منع الضرر، والمطالبة بالتعويض. هذا المبدأ واضح وصارم فى أنه لا يجوز لإثيوبيا إيقاع الضرر المائى بمصر، وحق مصر فى الدفاع عن حقوقها المائية، بل والمطالبة بالتعويض إذا استلزم الأمر ذلك.
ثانيا: مخالفة المبدأ الرابع من الاتفاق المتعلق بالاستخدام المنصف والعادل للموارد المائية، وتأكيد ضمان تحقيق ذلك، والأخذ فى الاعتبار كل العناصر الاسترشادية مثل احتياجات السكان والجغرافية المائية والمناخية، وباقى العناصر الطبيعية.
هذا المبدأ يصب فى مصلحة مصر، لأنها الدولة الوحيدة من الدول الثلاث التى تعانى "الشح المائى"، وليس لها مورد آخر سوى حصتها من مياه النيل، ونصيب الفرد فيها أقل من حد "الفقر المائى"، حيث لا يتجاوز 700 متر مكعب سنويا، فى حين أن إثيوبيا توجد بها 10 أحواض أنهار، بخلاف حوض النيل الأزرق، ويسقط عليها 936 مليار متر مكعب من الأمطار سنويا، أى أكثر من 20 ضعفًا لحصة مصر من النيل الأزرق محل الخلاف.
ثالثًا: مخالفة المبدأ الخامس المتعلق بالتعاون فى الملء الأول وإدارة السد، وهذا هو المبدأ الذى تحاول أن تتنصل منه إثيوبيا الآن بدون مبرر، برغم أنها وافقت عليه فى "إعلان المبادئ".
هذا المبدأ واضح وصريح فى ضرورة تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، والالتزام بتلك التوصيات خلال المراحل المختلفة للمشروع.
للأسف الشديد حاولت إثيوبيا طيلة الفترة الماضية عرقلة عمل المكاتب الاستشارية الدولية، وعدم تمكين الجهات الدولية مثل البنك الدولى والجهات الأخرى المعنية من القيام بعمل الدراسات التى نص عليها المبدأ الخامس من "إعلان المبادئ"، بما يؤكد سوء نية الجانب الإثيوبى، وعدم تعاونه فى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه.
نص المبدأ الخامس أيضا على ضرورة الاتفاق على الخطوط الإرشادية لقواعد الملء الأول للسد، وكذلك الاتفاق على الخطوط الارشادية لقواعد التشغيل السنوى للسد، وضرورة إخطار دولتى المصب بأى ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعى إعادة ضبط عملية تشغيل السد، وأن تكون هناك آلية تنسيقية بين الدول الثلاث، لتنفيذ ذلك.
حدد المبدأ الخامس كذلك الإطار الزمنى لتنفيذ تلك الخطوات (خمسة عشر شهرًا) منذ بدء إعداد الدراستين الموصى بهما من جانب لجنة الخبراء الدولية.
خلال السنوات الماضية تفننت إثيوبيا فى المراوغة والتلاعب، وفى كل مرة تتذرع بحجج واهية، لإطالة أمد التفاوض، وكسب المزيد من الوقت، وتؤكد فى الوقت نفسه رغبتها فى التعاون والسلام، فى حين أن كل ممارساتها تخالف ذلك، وتدفع فى اتجاه تصعيد الأزمة وتعقيدها.
فى ظل هذا التعنت الإثيوبى و"المراوغة" المتعمدة والخروقات المتعددة من الجانب الإثيوبى لاتفاق "إعلان المبادئ" لم يكن أمام مصر سوى اللجوء إلى المبدأ العاشر من الاتفاق نفسه، وهو مبدأ التسوية السلمية للمنازعات حيث أشار هذا المبدأ إلا أنه إذا لم ينجح الأطراف الثلاثة فى حل الخلاف، من خلال المشاورات أو المفاوضات، يمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق أو الوساطة، وهو ما طالبت به مصر وتحقق بالفعل، حينما وافقت الأطراف الثلاثة (إثيوبيا ومصر والسودان) على رعاية الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولى المفاوضات، والوساطة بينهم. وافقت الأطراف الثلاثة بمحض إرادتهم كاملة غير منقوصة على تلك الوساطة، كما فعلوا من قبل فى توقيع اتفاق إعلان المبادئ، لكن إثيوبيا تريد التنصل من التزاماتها الدولية والإقليمية، وتعطيل مسار الوساطة الدولية.
ذهبت إثيوبيا إلى الوساطة الدولية وقبلت بها، لكنها تريد استمرار نهجها فى المراوغة والتعنت، وحينما سارت المفاوضات بوتيرة جدية، وأوشكت على الانتهاء، تحاول إثيوبيا أن تلجأ إلى طريقتها نفسها، لتعود مرة أخرى إلى نقطة الصفر، غير أن الحالة مختلفة هذه المرة، لأن هناك وسيطا دوليا تدخل بموافقة الأطراف الثلاثة، وانطلقت المفاوضات بوجود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وممثل البنك الدولى، والدول الثلاث، وتمت ترجمة هذه المفاوضات إلى اتفاق شبه نهائى، وكان من المفترض أن يتم توقيعه فى الجولة قبل الماضية.
لم يعترض الجانب الإثيوبى على ذلك الاتفاق، وطالب فقط بالمزيد من التشاور، لحين انعقاد الجولة التالية، وحينما جاء موعد الجولة غاب الجانب الإثيوبى فى مشهد يثير الريبة والشكوك فى نوايا الجانب الإثيوبى، ويهدد بتحويل مشروع السد إلى "سد للأزمة" بدلا من أن يكون سدًا لنهضة الدول الثلاث.
بيان وزير الخزانة الأمريكى، ستيفن منوتشين، بعد غياب إثيوبيا، أشار إلى أن أمريكا شعرت بخيبة أمل شديدة نتيجة غياب إثيوبيا عن الاجتماع الأخير، الذى كان من المقرر فيه أن تبرم الدول الثلاث اتفاقا بشأن ملء وتشغيل السد ينهى سنوات من الخلافات بشأنه.
أعتقد أن الكرة الآن فى ملعب الجانب الإثيوبى إذا كان جادا فى إنهاء حالة الغموض والمراوغة السائدة منذ فترة، ليؤكد احترامه اتفاق إعلان المبادئ الذى تم توقيعه من الدول الثلاث، وتحول إلى وثيقة دولية ملزمة تضمن حق إثيوبيا فى التنمية، لكن فى الوقت نفسه عدم الإضرار بحق الشعب المصرى فى الحياة.